الخميس، 7 سبتمبر 2017

المدن المنسية


القرى الأثرية شمالي سورية )المدن الميتة(:
وصف القرى وتاريخها





تطلق تسمية قرى الكتلة الكلسية على منطقة الجبال الواقعة شمال غربي سورية، والتي تمتد على مساحة واسعة بين الحدود التركية شمالاً ومدينة أفاميا الأثرية، بطول حوالي 100 كم، وعرض يتراوح بين 20 - 15 كم، وتحدها وديان عفرين والعاصي في الغرب، وسهل حلب في الشرق. هذه المنطقة هي منطقة جبال متوسطة، تتألف من سلسلة من الهضاب المتموجة المتفاوتة الارتفاع، ويتراوح علوها بين 400 م و 900 م. تشرف على هذه المنطقة كتلتان رئيستان هما جبل الزاوية وجبل سمعان



 ويفصل بينهما سهل شالسيس الخصب، وترتبط هاتان الكتلتان بسلسلة من الجبال الأصغر هي الوسطاني والدويلي والأعلى وباريشا.

يعود بناء هذه القرى إلى الفترة ما بين القرنين الأول والسابع للميلاد، وقد بلغ عددها 800 موقع وقرية أثرية، منها ما هو مسكون حالياً ومنها ما هو غير مسكون ويقع معظمها في محافظتي حلب وإدلب.
تم طرح موقع القرى الأثرية في شمال سورية للتسجيل على قائمة الإرث الحضاري العالمي على أنها «مشهد ثقافي »، وهذه التسمية مطابقة لتعريف «العمل المشترك بين الإنسان والطبيعة ،» وتبين «تطور المجتمع وتوطده على مر الزمن، تحت تأثير القيود المادية والإمكانيات التي يقدمها محيطهم الطبيعي ». تقع ثلاثة من التجمعات في السلسلة الشمالية لجبل سمعان في محافظة حلب، في حين تقع الخمسة الباقية على سلاسل الكتلة الكلسية الأخرى، إلى الجنوب والغرب من جبل سمعان ضمن محافظة إدلب.
نجد داخل هذه المناطق التي يختلف امتدادها، ولا تتجاوز مساحتها بضعة عشرات من الكيلومترات، مواقع رئيسة ومعروفة )سرجلة والقديس سمعان وكنيسة قلب لوزة(، ومواقع أقل شهرة لكنها ذات أهمية مماثلة، وكذلك مواقع صغرى معزولة وغير مسكونة، ومواقع أخرى معاد استخدامها جزئياً من قبل السكن الحديث، بالإضافة إلى مناطق طبيعية وزراعية. تنتشر التجمعات الثمانية على جميع السلاسل الرئيسة التي  تؤلف الكتلة الكلسية، وتقدم صورة فريدة لتعقيد الموقع وغناه، وتضم في ربوعها القرى التالية:
التجمع الأثري الأول في جبل سمعان - حلب الذي يضم )قرية وقلعة دير سمعان، رفادة، ست الروم ، قاطورة، الشيخ بركات(.
التجمع الأثري الثاني في جبل سمعان - حلب الذي يضم )باطوطة ، سنخار ، الشيخ سليمان(.
التجمع الأثري الثالث في جبل سمعان - حلب الذي يضم )براد، كفرنبو، برج حيدر، كالوتا، خراب شمس(.
التجمع الأثري الرابع في جبل الوسطاني - إدلب يضم )كفر عقارب، فاسوق،خربة بنصرة(.
التجمع الأثري الخامس في جبل الزاوية - إدلب يضم )دللوزة، البارة، كفر، وادي مرتحون، خربة ماجليا، خربة بعودا، خربة ربيعة، خربة حاس، بسللا ،سرجلة(.
التجمع الأثري السادس في جبل الزاوية - معرة النعمان يضم )رويحة، جرادة(.
التجمع الأثري السابع لجبل باريشا - إدلب )بقيرحا، خربة الخطيب، دار قيتا، ديرونة(.
التجمع الأثري الثامن لجبل الأعلى - إدلب- منطقة حارم )قلب لوزة، كفير، قربيزة(.

إن الفلاحين الذين قطنوا الكتلة الكلسية منذ القرن الأول أتوا من السهول المجاورة نتيجة للزيادة النسبية في عدد سكانها، وعمدوا إلى استصلاح الكتلة الكلسية للزراعة وإلى وضع حدود للمقاسم. وقد أسست السلطة الحاكمة مخططاً كادسترائياً للملكيات بهدف السيطرة بشكل أفضل على هذه الحركة العفوية من الاستيطان، وتم تنفيذه على أرض الواقع من خلال شبكة من الجدران الحجرية المنخفضة الموضوعة بشكل متعامد في الاتجاهين شمال-جنوب وشرق-غرب على مساحة تقدر ببضعة مئات من الكيلومترات المربعة. وقد بقي الفلاحون الذين قاموا بالأعمال الشاقة فقراء، وقاموا ببناء مساكنهم بأيديهم بواسطة جدران من الحجر الغشيم، كما مارسوا زراعة الحبوب كالقمح والشعير، والخضراوات والأشجار المثمرة، بالإضافة إلى تربية الحيوانات الكبيرة والصغيرة والتي يدل على مدى أهميتها لديهم، المعالف الكثيرة التي ما زالت واضحة في القرى. تراجع الازدهار والإنتاج الاقتصادي بين عامي 250 م و 330م، بسبب الطاعون الذي انتشر في المنطقة عام 250 م، 

كما قد يكون من أسبابه أيضاً الحروب التي دارت خلالها بين الفرس والإمبراطورية الرومانية. عاد التوسع عام 330 م بقوة على الصعيدين السكاني والاقتصادي، ولم يتوقف إلا خلال الفترة 550 - 540 م، وبشكل نهائي هذه المرة، ومن مظاهر هذا التوسع أن تضاعف عدد  السكان ثلاث أو أربع مرات. وقد أسبغ الازدهار الاقتصادي طابع الرخاء كماً ونوعاً على المنطقة، فالفلاحون الذين ازداد عددهم، والذين امتلكوا مساحة متوسطة من الأراضي، أصبحوا أكثر ثراء، وحققوا فائضاً زراعياً، وامتلكوا الإمكانيات اللازمة لبناء مساكن من طراز بيوت الفترة الرومانية، ولكنها أكثر كلفة وأوسع. اختبر فلاحو سورية تغييراً جذرياً بعد تركهم للوثنية وتحولهم للمسيحية، وقد كان الزُهّاد الذين استقروا في الكتلة الكلسية ابتداء من القرن الرابع من عوامل هذا التحول، فقد عاش هؤلاء حياة من التقشف أعطتهم سمعة واسعة بين الفلاحين الذين رأوا فيهم الحُماة وأصحاب المعجزات

وقد استقر بعض هؤلاء الزهاد ابتداء من القرن الخامس في أديرة يديرها آباء، ومنذ النصف الثاني من القرن الرابع، بنى الفلاحون كنائس تضاعف عددها خلال القرنين الخامس والسادس، وظهرت في كل القرى تقريباً.

يعتبر القديس سمعان، أول العموديين وأعظمهم، وهو من بين القديسين الذين حصلوا على سمعة كبيرة في منطقة المتوسط، وكان الأشهر والأقوى سمعة بينهم، وامتدت سمعته هذه إلى الغرب في العالم الروماني. وقد تغير كل شيء ابتداء من عام 540 حتى 550 ، حيث عانت سورية خلال هذه الفترة من المجاعة، والأوبئة كالطاعون ومن الحروب التي عادت في هذه الفترة بين الرومان والفرس، مما تسبب بارتفاع أعداد الوفيات وتناقص مستمر بعدد السكان. وقد أدى هجر السكان وتراجع عددهم في الكتلة الكلسية في بداية القرن الثامن إلى أن أصبحت الكتلة الكلسية شبه فارغة في القرن العاشر، وهو الأمر الذي سمح بالحفاظ على القرى الكلاسيكية والتقسيمات الزراعية المجاورة لها حتى اليوم.




القيمة العالمية الاستثنائية
تشكل القرى الأثرية في شمال سورية على مستوى ثمانية تجمعات تم اختيارها للتسجيل على قائمة الإرث الحضاري، موقعاً ذا قيمة عالمية استثنائية.
يقع الموقع على مساحة حوالي 130 كم 2، يعيش فيه ما يقارب 10 آلاف نسمة، وتمثل تجمعاته منطقة ما تزال تحتفظ بآثار الاستيطان البشري العائد إلى الفترة بين القرنين الأول والسابع واضحة، وقد ساهمت النشاطات الإنسانية منذ الفترة الكلاسيكية بقولبة وتشكيل المشهد الذي ما يزال يحتفظ حتى اليوم بالخواص التي تميز بها خلال أواخر الفترة الكلاسيكية والفترة البيزنطية


إن الوضع الاستثنائي للحفظ الذي تتميز به الأطلال والمشهد، اللذين هجرا لوقت طويل من قبل الإنسان، يسمح بالحصول اليوم على رؤية فريدة لا مثيل لها حول أسلوب حياة سكان هذه المنطقة، وبالتالي حول مظاهر الحياة ضمن المناطق الريفية في نهاية الفترة الكلاسيكية.  لقد تم طرح الموقع للتسجيل على قائمة الإرث الحضاري وفق المعايير الثالث والرابع والخامس لأنه يظهر الطريقة الاستثنائية لنمو حضارة زراعية اندثرت، ولأنه يقدم من خلال أطلاله المعمارية العديدة مواقع صرحية ذات قيمة استثنائية في العالم المسيحي الشرقي، ولأنه يسمح بفهم الطرق الكلاسيكية لاستعمال الأراضي الزراعية، ورؤيتها على ارض الواقع.
يدعم القيمة الاستثنائية العالمية لموقع القرى الأثرية في شمال سورية حالة الحفظ الاستثنائية للأطلال، كالقبور والمساكن والمعابد والكنائس والأديرة التي حافظت غالباً على مواد بنائها الأصلية حتى كورنيش الأسقف، ويعتبر تكامل المشهد والمواقع التي لا ينقصها سوى الأجزاء الخشبية والزخارف التي لم تستطع مقاومة الزمن، فريداً من نوعه.
هذا بالإضافة إلى أن أصالة المنطقة محفوظة تماماً بسبب الموقع المتطرف لها، مما أبقاها لفترة طويلة خارج الأحداث التاريخية الكبيرة التي حصلت في نهاية الفترة الكلاسيكية وامتدت إلى فترة القرون الوسطى ثم إلى الفترة العثمانية، وحتى فترة التحولات التي حصلت خلال مرحلة الانتداب وتأسيس الدول الحديثة.

معايير التسجيل
المعيار الثالث
أن تظهر تفرد التراث التقليدي الثقافي أو حضارة اندثرت أو مازالت حية.
كانت القرى الأثرية في الكتلة الكلسية شديدة الازدهار منذ حوالي 1500 سنة، وكانت تتضمن مئات المراكز المأهولة والقرى، ومارس سكانها الزراعة فزرعوا القمح، والكرمة والزيتون، وشاركوا في التبادلات التجارية، وقاموا ببيع منتجاتهم في جميع مناطق المتوسط.
خلال الفترة الرومانية، خضعت تربة الكتلة الكلسية الفقيرة بالتربة الزراعية إلى استصلاح، ونتيجة لذلك عرفت المنطقة مرحلة أولى من الإشغال السكاني.

وقد أثرت نشأة المسيحية وازدهارها على المنطقة بشكل كبير، فبدأ بناء الكنائس بالانتشار منذ منتصف القرن الرابع، وتم إنشاء العديد من الأديرة حول القرى، وقد تطور في سورية ولاسيما في الكتلة الكلسية مبدأ الزهد والانقطاع عن العالم والاعتكاف، وقد حازت المنطقة بفضل هؤلاء النساك وممارساتهم المتطرفة، على سمعة عالمية، وبدأت باستقطاب حشود الحجاج. وأصبحت الكنيسة المصلبة التي بنيت حول العمود الذي عاش عليه القديس سمعان مركز حج للعالم المسيحي الشرقي.
بدأت المنطقة بالتراجع في القرن السادس، وهجرت شيئاً فشيئاً، وفقدت الحقول والكنائس أهميتها، ومع الفتح الإسلامي
ترك سكان الكتلة الكلسية الجبال شيئاً فشيئاً، واستقروا في السهول والمدن الكبرى في المنطقة، وبقيت الكتلة الكلسية على الهامش بالنسبة للأحداث في الفترة الأيوبية والمملوكية.
تكمن الميزة الرئيسة والأهمية الأكبر بالنسبة للمنطقة في أن هذا الهجر لم يتضمن هدم المباني أو إحراقها، ولم تتعرض البقايا المعمارية العائدة لفترات التطور المختلفة إلا لتأثيرات الزمن، والهزات الأرضية، وبقيت في حالة لا مثيل لها من الحفظ. وهي تشكل بالتالي مجموعاً فريداً، وتقدم رؤية كاملة للحياة اليومية الاجتماعية والاقتصادية، وللممارسات الزراعية خلال مراحل الفترة الكلاسيكية المتأخرة والبيزنطية.

المعيار الرابع
أن تكون شاهداً لنموذج العمارة أو البناء أو المواقع الطبيعية التي تمثل تاريخ البشرية خلال مرحلة معينة.
تشكل هذه القرى مجموعاً فريداً من المواقع الأثرية ضمن حوض المتوسط، وهي تظهر تماماً تطور العمارة السكنية الريفية بين القرنين الأول والسادس، وتختلف هذه المواقع عن المواقع الأثرية الأخرى العائدة لهذه الفترة، في نوعية البناء وتقنيته المتميزة بالمعرفة التامة بالبناء بواسطة كتل الحجارة الكلسية الكبيرة المنشأة معاً بدون ملاط رابط، وقد سمحت دقة نحت الحجارة وغنى الزخارف المعمارية، المستلهمَين من التقليد الهلنستي للشرق الأدنى، والمتميزَين بخواصهما الخاصة، بنمو طراز معماري أصيل ومجدد.
إن القرى الأثرية في شمال سورية، تشهد من خلال المباني الكثيرة العامة المحفوظة، على التحول التدريجي في المنطقة من المشهد الوثني إلى المشهد المسيحي.
المعيار الخامس
أن يكون مثالاً بارزاً للتوطن الإنساني التقليدي، وللاستخدام التقليدي للأراضي أو البحر، بحيث يكون ممثلاً لحضارة )أو حضارات( أو للتفاعل بين الإنسان والبيئة، ولاسيما عندما تصبح هذه الأخيرة معرضة لتأثير تحول غير قابل للإرجاع.
تمثل هضاب الكتلة الكلسية مشهداً ريفياً قديماً محفوظاً بدرجة استثنائية، ويقدم رؤية فريدة لاقتصاد الشرق الأدنى ومجتمعه خلال الفترة الكلاسيكية المتأخرة.
إن قطاعات كبيرة من التقسيمات الزراعية الكلاسيكية بقيت موجودة في مناطق التجمعات الأثرية، وإن هذه الأطلال التي تمثل تقسيمات الأراضي خلال الفترة الرومانية، وأكوام الحجارة القديمة، التي تشكلت من الحجارة التي اقتلعها فلاحو الكتلة الكلسية الأوائل بأيديهم وبصبر، من أجل خلق مناطق قابلة للزراعة، تشهد على الجهود المستمرة للإنسان للسيطرة على منطقة غير منتجة بالأساس واستغلالها في الزراعة، وقد أصبحت بفضل عمل الإنسان منطقة غنية ومنتجة، وصدرت منتجاتها إلى جزء واسع من العالم المتوسطي، وقد أسست نشاطها الاقتصادي على تربية الحيوانات، وعلى زراعة الزيتون التي ما زالت مستمرة حتى الآن، بالإضافة إلى زراعة القمح، والكرمة.

الأصالة والسلامة
إن أصالة هذه القرى قد صمدت بالكامل دون تشويه بسبب موقع المنطقة المتطرف، الذي ظل لفترة طويلة خارج الأحداث التاريخية الكبيرة التي ارتبطت بنهاية العالم الكلاسيكي، وفترة القرون الوسطى، والفترة العثمانية، وحتى فترة التحولات التي سببتها مرحلة الانتداب وولادة الدول الحديثة، وإن أعمال التخريب البسيطة أو حملات الترميم النادرة التي تمت في المنطقة خلال القرنين الأخيرين لم تؤثر على أصالة المادة أو المشهد في مواقع القرى الأثرية في شمال سورية.
إن موقع هذه التجمعات مهدد بالضغط السكاني، وبالتحديث الذي لا يمكن منعه، لهذا وبهدف حفظ القيمة الاستثنائية
العالمية للموقع، فقد تولت المديرية العامة للآثار والمتاحف إنجاز قرارات التسجيل لهذه التجمعات على لائحة التراث الوطني لتشمل المشهد الثقافي الذي تمثله هذه المواقع بكل ما له من قيمة استثنائية وعالمية، كما علمت من جهة أخرى على تفعيل آليات  الحماية والحفظ بالاشتراك مع المجتمع المحلي وبالتعاون النشط مع الجهات الإدارية المسؤولة في المحافظتين )إدلب وحلب(.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق