الخميس، 7 سبتمبر 2017

قلعة القديس سمعان العمودي






قلعة سمعان العمودي


فيلم وثائقي عن قلعة سمعان :



تقع قلعة سمعان فوق بناء صخري ارتفاعه 564 م. عن سطح البحر شمال غربي مدينة حلب بـ 25 كم. وتقع بالقرب منها قرية صغيرة مأهولة بالسكان تدعى “دير سمعان” وقد ارتبطت حياة هذه القرية لفترة من الزمن فيما مضى من الناحيتين الاقتصادية والتاريخية بقلعة سمعان.


ويبدو أنها كانت قائمة قبل قيام قلعة سمعان في العصر البيزنطي حيث كانت تسمى “تيلانيسوس” Tilanisus. إن الحديث عن قلعة سمعان يفرض علينا الحديث عن الرجل الذي أعطى اسمه لهذه القلعة التي أصبحت تعرف في الكتب والمراجع بـ قلعة سمعان.
ففي السنة 423 م اعتلى رجل في الرابعة والثلاثين من عمره، صخرة أصلها في الأرض ونحت ما منها فوق الأرض على شكل مربع، لم ينزل الرجل من الصخرة في الغد ولا في اليوم الذي بعده، بل قضى 37 سنة في أعلاها وهو يصوم ويصلي رافعاً يديه إلى السماء ووجهه يتهلل ويشع نوراً.
فأقبل الناس عليه من قريب وبعيد، ليروه ويسمعوا كلامه الذي نفذ إلى اعماق قلوبهم كأنه صوت السماء تحدثهم لا صوت إنسان ضعيف مثلهم. فتضايق الرجل وطلب أن يرفع فوق الصخرة عمود طوله عدة أمتار، فصعد إليه ليتابع صومه وصلاته في خشوع الجبل وسكون الطبيعة، وفي ظنه أنه سيكون بمنجاة من ازدحام الناس عليه، ولكنه كلما ارتفع في الجو ازداد الإقبال عليه، فأضاف مرة أولى ثم مرة أخرى اسطوانة إلى العمود فوق الصخرة، حتى بلغ الإرتفاع كله 16 م. 4 ¬ 7 ¬ 11 ¬ 16 (بالتدريج).
ومن حسن الحظ أنه لدينا مراجع تاريخية جديرة بالثقة التامة، كتبها شهود عيان وأولهم “ثيودورطس” الذي كان من أحسن أهل عصره ثقافة، ولد سنة 393 م أي بعد سمعان بـ 4 سنوات في مدينة أنطاكية التي لا تبعد عن جبل سمعان أكثر من 50 كم.
ولد سمعان في سنة 389 م في قرية “سيس” أو سيسان من قرى كيليكيا. رزق أبو سمعان عدة أولاد، فلم يعش سواه وصبي آخر اسمه “شمشي” صار هو أيضاً راهباً ومات قبله بوقت كثير.
وكان أبواه صالحين فقدماه للعماد وهو طفل صغير في المهد. زعم أنه كانا على شيء من اليسر، فقد علماه رعاية المواشي من غير أن يعلماه شيئاً من القراءة والكتابة.
وتكلم السريانية وهي لغة وطنه ولهجة من اللغة الآرامية لغة السيد المسيح، وألم باليونانية لما دخل الرهبانية فضلاً عن أن هذه اللغة كانت منتشرة في تلك الأيام في بلاد الشرق كونها اللغة الرسمية للدولة.
انضم سمعان إلى جماعة من النساك في الجوار، وأقام معهم عامين 402+401 م. ثم رغب في زيادة من الفضيلة، فمضى إلى قرية “تلعدي” سنة 403 م. أو Hiliodorus ويقال لها الآن تلعادي وكلمة تلعدا تعني تل العدو أي الركض، حيث تربض القرية في أسفل جبل الشيخ بركات.
إن البطل في التقوى سمعان، قضى عشرة أعوام في الكفاح 413 – 403 م وكان يكافح معه ثمانون (من الرهبان) فكان يفوقهم جميعاً وكان هؤلاء يتناولون الطعام بعد انقضاء يومين، أما هو فكان يبقى الأسبوع كله من غير أن يأكل شيئاً، فاستاء الرؤساء منه. ولم يكفوا عن محاربته، وهم يقولون له إن تصرفه مخالف للنظام، فلم يستطيعوا إقناعه بكلامهم، فدعوه إلى مغادرة الدير لئلا يكون سبب الهلاك لأناس أضعف منه بنية يحاولون القيام بما يفوق طاقتهم. بعد ذلك مضى إلى قرية “تل نيشين” ومعناه تل النساء وحرفه الذين كتبوا باليونانية فقالوا Tilanisus وأهمل الناس بعدئذ ذلك الإسم وقالوا “دير سمعان” إكراماً للناسك القديس الذي مضى هنالك ثلاث سنوات وفي كل سنة كان يبقى أربعين يوماً من غير طعام فكان ذلك الصوم الكبير. فلفت انتباه الناس له مما أثار حفيظة رؤوسائه، فقرروا عدم صلاحيته لحياة الدير، وطلبوا منه مغادرته إلى مكان آخر وكان ذلك عام 416 م.
عاش بعد ذلك في كهف صغير قريب وسرعان ما انتشرت أنباء حياة القديس سمعان القاسية، فأقبل الناس عليه للتبرك وطلب آخرون الشفاء للمرضى والتمس غيرهم أن يصيروا آباء..
وهكذا أقبل الناس من كل مكان حتى صار كل طريق أشبه بنهر من البشر، فجاءه الناس من الشرق ومن أقصى الغرب من اسبانيا وبريطانيا وفرنسا، أما الإيطاليون فلا حاجة لذكرهم، فقد أصبح سمعان مشهوراً جداً في روما العظمى، حتى أن صوراً صغيرة نصبت على عمود في مدخل جميع الحوانيت لينالوا به هناك حراسة لهم ووقاية وبركة.
اشتهر القديس سمعان بشفاء المرضى كما اشتهر بأنه مستجاب الدعاء، ويقال بأن أحد الملوك كانت له ابنة مرضت بالجزام فأفردها أبوها في الجبل الذي تقوم عليه قلعة سمعان فمر عليها سمعان وطلب منها أن تسقيه ماء فأخرجت له الماء وسترت وجهها. وعندما سألها عن سبب ذلك أجابته “إن بي مرض” فشرب من الماء الذي قدمته له ورش على وجهها بعضاً منه فبرئت من المرض.
وهناك أمثلة أكثر من أن تحصى عن معجزاته في شفاء المقعدين والمرضى ولكن سمعان أمر بذلك على مثال الرب الذي دعا المقعد إلى أن يحمل سريره (متى 6/9) ولكن لا يقولن أحد أن هذا التمثيل هو انتحال السلطة. ولكن الرب هو الذي أجرى هذه الأعاجيب على يد عباده.
قلنا أنه عندما أقبل الناس عليه تضايق منهم وابتنى لنفسه عموداً فوقه بقية حياته وظل على حياة التقشف حتى أدركته الوفاة يوم الأحد في 26 تموز 459 م. وهو في الواحد والسبعين من عمره. بعدما قضى 37 عاماً أي أكثر من نصف حياته فوق العمود، يعاني الحر الشديد في الصيف والبرد القارس في الشتاء ولا يتناول من الطعام إلا القليل مرة في الأسبوع ويصوم أربعين يوماً كل سنة من غير أن يتناول طعاماً.
روى أنطونيوس تلميذه وخادمه طوال فترة إقامته على العمود، أنه عندما رأى القديس ميتاً لم يخبر أحد بالأمر، دفعا للبلبلة، بل بعث رسولاً إلى مطران أنطاكية “مرطيريوس” فحضر في اليوم التالي رئيس حرسه “أربادوريوس” على رأس 600 جندي. وضع الجثمان على مذبح من الرخام تجاه العمود، فقبل الميت جميع الأساقفة الذين حضروا. ثم اتجهوا به إلى إنطاكية ولم يصلها الموكب إلا في آخر الأسبوع حيث دفن في كنيسة قسطنطين الكبير.
لقد كان القديس سمعان العمودي الكبير من بين شخصيات العصر البيزنطي الدينية الهامة. فلقد كان يتمتع بنفوذ عالمي ساعده على ترسيخ ذلك النفوذ أتباعه من بعده. كما أن المسيحين الأرثوذكس يعتبرون يوم وفاته في 459/7/26 ويوم دفنه في 1 أيلول من نفس العام عيدين دينيين من أعيادهم.
وخير الكلام عن سمعان العمودي ما كتبته القديسة “تريزيا دافيلا” في القرن السادس عشر، ما يعبر أحسن تعبير عن شعار سمعان ذلك الشعار الذي لم يكتبه لأنه كان أمياً، بل حققه بحياته كلها:
ليمت فيّ ذلك الأنا، وليحي في آخر هو أكبر مني أنا، وهو عندي خير من أنا، لكي أستطيع أن أخدمه. فليحي ويعطيني الحياة، وليكن سيدي ولأكن أسيره. إن نفسي لا تريد حرية غير هذه الحرية، وكيف يكون حراً من كان غريباً عن العلي! إن الحب أقوى من الموت وقاس “مثل جهنم”.
بذلك يكون القديس سمعان قد عبد الطريق أمام أسلوب جديد في العبادة فوق الأعمدة، قلده فيها كثير من الرهبان الذين أتوا بعده كالقديس “دانيال العمودي” (493-409) م في القسطنطينية. والقديس سمعان العمودي الملقب بالشاب (592-517) م على جبل بالقرب من أنطاكية. والقديس “اليبيوس البفلغوني” القرن السابع الميلادي والقديس “لوقا” 979-879 م في خلقيدونيا. والقديس اليعازر (1054-968) م على جبل جاليزيوم بالقرب من إفسوس. (يوجد بالعالم حوالي 157 قديس عمودي).
كما وجدت إشارة إلى قديسة عامودية، ولكن أبرز هؤلاء جميعاً كان القديس “دانيال العمودي” الذي كان أحد تجار القسطنطينية الأغنياء فترك تجارته ودخل سلك الرهبنة وظل يتدرج فيها حتى نال خطوة كبيرة عند الإمبراطور “ليو” والإمبراطور “زينون” فطالبهم ببناء كنيسة كبيرة تخليداً للقديس سمعان. فبدأ المشروع في عهد الإمبراطور “ليو” ولكنه توفي قبل أن يتحقق فتولى الإمبراطور “زينون” تحقيقه. وبدئ بالعمل في بناء الكنيسة عام 476 م وأنجز في عام 490 م أي انه استمر العمل حوالي 14 م.
بنيت الكنيسة على شكل صليب يتوسطه العمود الذي كان يعيش فوقه القديس سمعان. وفي نهاية القرن الخامس أقيمت بعض الأبنية حول الكنيسة سخرت لخدمتها ومن أهمها بناء المعمودية وبعض المنازل لتكون سكناً للرهبان وطلاب العلم. وفي الفترة مابين 528-526 م التي سبقت الزلزال تطورت المنشآت ونمت. وحول هذا التاريخ ضرب سوريا الشمالية زلزال مدمر ألحق أضراراً كبيرة في المدن الهامة كحلب وأنطاكية وسلوقيا كما ألحق أضراراً بالغة بكنيسة سمعان الكبرى. عندما فتح العرب المسلمون سورية أبقوا الكنيسة الكبرى والدير بيد المؤمنين المسيحين كما أبقوا الكنائس والكاتدرائيات بيد أصحابها في حلب والرصافة ودمشق والقدس وغيرها.
ولكن عندما ضعفت الدولة العربية وتمزقت استطاع البيزنطيون العودة إلى اغتصاب كنيسة سمعان وحصنوها بالأسوار وبذلك تحولت إلى قلعة منيعة ومنذ ذلك الوقت أصبحت تعرف باسم “قلعة سمعان”.
خلال هذه الفترة أجريت بعض الترميمات حيث رصفت الكنيسة بالفسيفساء وتشير الكتابة التي وجدت عليها أن الإمبراطور “باسيل الثاني” 1026-976م وأخيه “قسطنطين الثامن
1028-976 م. قد قاما برصف الكنيسة بالفسيفساء وإجراء بعض الإضافات والإصلاحات فيها.
وفي عام 986 م تمكن الأمير الحمداني سعد الدولة ابن سيف الدولة من استعادة قلعة سمعان بعد حصار استمر 3 أيام. وفي عام 1017 م. نجح الفاطميون الذين سيطروا على سورية الشمالية وقتذاك من السيطرة على قلعة سمعان بعد أن بذلوا جهداً كبيراً في سبيل ذلك.
بعد هذا التاريخ لم يعد للقلعة أهمية عسكرية وهجرت تدريجياً، سكنها في القرن السادس عشر أحد المتنفذين الأكراد وأقام في الضلع الشرقي من الكنيسة الكبرى طابقين. كما سكن المعمودية متنفذ آخر من المناطق المجاورة، إلى أن قامت السلطات الأثرية بإفراغها والاعتناء بها.
بنيت القلعة على شكل صليب على مساحة من الأرض تقدر بحوالي 5000 م2. واجهتها الرئيسية تتألف من ثلاث أقواس تستند على أعمدة تيجانها مزينة بأوراق نبات الخرشوف وهي مائلة باتجاه الريح وهذا النوع من التزيينات النباتية مألوف في العمارة السورية في القرن السادس الميلادي. تتألف الكنيسة من أربعة أقسام يتوسطها شكل مثمن يقوم في وسطه العمود المقدس الذي كان يتعبد فيه القديس سمعان.
يتكون كل قسم من ثلاثة أروقة، رواق كبير في الوسط وآخران أقل عرضاً على الجانبين، تفصل هذه الأروقة صفان من الأعمدة، يتألف كل صف من ستة أعمدة لا تزال قواعدها منظورة.
والآن سوف نصنف أضلاع الكنيسة الكبرى بالتفصيل:
1- الضلع الجنوبي:
واجهة هذا الضلع تشكل المدخل الرئيسي للكنيسة الكبرى. تحوي هذه الواجهة أربعة أبواب يفضي إثنان منها إلى الرواق الكبير، أما البابان الآخران فيفضي كل منهما إلى رواق جانبي يقابله. ويوجد فوق بابي الرواق الأوسط جدار عال جعلت به أربعة نوافذ تعلوها زخرفة نفذت على شكل شريط بارز يتجه من الأسفل للأعلى ويدور حول الأقسام العلوية للنوافذ (مثل عين الإنسان والحاجب فوقها).
أما فيما يتعلق بالسقف فيظهر حسب تصور العالم “كرنكر” بأنه عمل على شكل جمالوني بالنسبة للرواق الأوسط.
ومائل بالنسبة للأروقة الجانبية ليسهل تصريف مياه الأمطار وبالتالي جمعها في صهاريج لتزويد القلعة بالمياه خلال أيام السنة، يرتكز السقف الجمالوني على جدران فتحت فيها نوافذ عدة لتمكين الإنارة الطبيعية من النفاذ إلى الداخل. ويوجد في هذا الضلع عشر أبواب ثلاثة منها في الجدار الشرقي ومثلها بالغربي أما الأربعة الباقية فهي بالجنوبي.
2- الضلع الشرقي:
هو أهم ضلع وأجمل جناح في الكنيسة، لقد خصص لإقامة الطقوس الدينية وهو أطول من بقية الأجنحة بـ 7 أمتار حيث طوله 32 م إضافة إلى 6 م للحنية الوسطى (الهيكل).
كانت الأرضية لهذا الجناح مرصوفة بالفسيفساء. وفي القرن السادس عشر والسابع عشر سكن هذا الجناح من قبل أحد الأغوات الأكراد وقد قضت ضرورة السكن إلى رفع قواعد الأعمدة وتوضيب المكان ليصلح لأداء الوظيفة الجديدة.
وفي هذا الجناح أربعة أبواب اثنان في الجدار الشمالي وآخران في الجدار الجنوبي. خصص الباب القريب من الحنايا في كل من الجدارين الشمالي والجنوبي لدخول الرجال أما البابان الآخران فقد خصصا لدخول النساء. أما الحنية الوسطى فقد جعل فيها خمسة نوافذ.
أما الشكل ذي الثمانية أضلاع فقد أقيم حول عمود سمعان ويعتقد أنه أول جزء بني من الكنيسة الكبرى، حيث يقوم بوظيفة الموزع لأقسام الكنيسة الأربع عبر أقواس أربعة قوس لكل ضلع.
وفي زوايا المثمن يوجد أربع منحنيات تشبه المحاريب استخدمت للصلاة في بادئ الأمر ثم فيما بعد لوضع توابيت رجال الدين المشهورين الذين عاشوا بالمنطقة وقدموا خدمات دينية هامة. وأرضية هذا المثمن مبلطة بأحجار كبيرة لازالت بقاياها موجودة وقد بلغ قطر هذا المثمن 26.67 م.
3- التحصينات:
ذكرنا أن الكنيسة الكبرى والدير تحولا إلى قلعة في القرن العاشر ميلادي. فأضيفت إليها أسوار وأبراج. فبلغ عدد الأبراج المقامة فيها 27 برجاً على السور وبتلك التحصينات أصبحت كنيسة سمعان منيعة يصعب النيل منها بسهولة.







4- الأبنية الملحقة:
عند الطرف الشرقي من الضلع الشرقي للكنيسة الكبرى وفي الزاوية الجنوبية الشرقية أقيمت كنيسة صغيرة تتألف من ثلاث أروقة أعرضها الأوسط حيث كانت لتأدية الصلاة في الأيام العادية، أما الكنيسة الكبرى فخصصت للمناسبات والأعياد وأيام الآحاد.
لابد هنا من ذكر المدافن التي نحتت في الصخر لتكون مقلعاً للحجارة ثم ما لبثت أن حولت إلى مدافن وسقفت على شكل هرمي. بأرض المدافن وعلى الجوانب يوجد تجاويف تؤدي إلى قبو كانت تجمع فيه عظام الموتى من الرهبان والقديسين بعد جمعها من النواوويس.





وفي الجهة المقابلة لكنيسة سمعان توجد المعمودية وبجانبها كنيسة. وأقيم حول المعمودية رواق طويل كان يطوف به المصلون قبل عملية التعميد وبعدها. وكان الذين يعمدون ويذهبون للكنيسة بعد تلقيهم العمادة فيشتركون في القداس ويتقبلون الأسرار المقدسة أي القربان والخمر المقدسة.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق