الخميس، 7 سبتمبر 2017

مملكة إيبلا



إيبلا، المملكةُ المفقودةُ التي غيّرت تاريخَ العالم




 


القائمةُ المؤقتةُ للائحةِ التراثِ العالميِّ هي قائمةٌ أوليّةٌ يقومُ فيها البلدُ المعنيّ بجردِ وتحديدِ كافّةِ المواقعِ الطبيعيّةِ والثقافيّةِ الهامّةِ الموجودةِ داخلَ حدودِه، ومن ثمّ تحديدِ الخصائصَ التي يمتلكها كلُّ موقعٍ، وذلك للنظر في ترشيح الموقع لإدراجِه على لائحةِ التراث العالميّ. وبهذا فإن سوريّة قامت بتحديدِ قائمةٍ أوليةٍ مؤلفةٍ من 12 موقع، وأولى هذه المواقع التي سنتحدّث عنها هي إيبلا.
إيبلا هي مملكةٌ سوريةٌ قديمةٌ قامت في تلِّ مرديخ وتبعُد عن حلب حوالي 55 كم. ازدهرت في منتصف الألفِ الثالثِ قبلَ الميلاد وامتدّت المناطقُ التي كانت تحكمُها من الفرات شرقاً وحتى سواحل المتوسط غرباً، ومن طوروس شمالاً وحتى حماه جنوباً. أمّا نشاطُها التجاريّ فقد امتدّ إلى أكثرَ من ذلك بكثير.
عَرفت إيبلا نظامَ حكمٍ انفصلت فيه السّلطة الدينيّة عن المدنية، وكان الملكُ هو رأس الدولة. وإلى جانب الملك كان مجلسُ (الآبا) ويعادلُ مجلسَ الشيوخِ وكانت مهمّتَه مراقبةُ ممارساتِ الملك للسّلطة. ويلي الملك في المرتبة مسؤولاً يُدعى (لوغال) أو حاكم المقاطعة، وتذكرُ النصوصُ أربعةَ عشرَ حاكماً وهذا يعني أنّ إيبلا كانت مقسّمةً إلى أربعَ عشرة مقاطعة.
أمّا من الناحيةِ الدينيّة فقد اتّصفت إيبلا بصفتين، وهما تعدّدُ الآلهة وسيادةُ الآلهةِ الكنعانيّةِ في مجمَع الآلهة. فقد عَبدَ سكانُّها آلهةً مختلفةً ذكوراً وإناثاً ومنها: نيداكول ودجن وإله الشمس وككاب إله النجم ورشف إله الطاعون والعالم السفلي وأشتار وعشتارت وليم وأدا (حدد) إله الطقس، إضافةً إلى الآلهة السومرية والحوريًة مثل: أنكي ونينكي وأشتابي وخبات. كما قدّسوا الأسلافَ والملوك.
فقدت إيبلا مكانتَها واستقلالَها مع ماري وكيش وخضعت لأسرةِ شاروكين الأكّادي على يدِ الملك نارام سين، وكان ذلك بعد أن أحرقَ المدينةَ بالكامل حوالي عام 2250 ق.م.

ذُكِرت إيبلا في وثائقَ مسماريّة تعود إلى عصرِ سرجون الأول مؤسّسُ الامبراطورية الأكادية، كما ذُكِرت بوثائقَ تعودُ لعصرِ حفيدِه نارام سين. كما ورد ذكرُها في نصوصِ سلالةِ أور الثالثةِ وذُكرت في نصوص تعود للعصرِ الآشوريّ القديم. إلا أنّه و حتى القرن العشرين لم يتمّ معرفةُ مكانِ إيبلا التي تمّ ذكرُها في العديد من هذه النصوص والوثائق. وفي عام 1955 في موقع تل مرديخ عثر فلاحٌ بمحراثِه صدفةً على جزءٍ من حوضٍ منحوتٍ ومزيّنٍ بأشكالٍ نافرة، زُيِّن جانبٌ منه برجالٍ ملتحين والآخرُ بسباعٍ فاغرة. وفي عام 1964 بدأت بعثةٌ إيطاليةٌ بإدارةِ (بالو ماتييه) أعمالَ التنقيبِ في هذا التلِّ ولم يتأكّد أنّ الموقعَ هو نفسُه إيبلا القديمة وبقيت هذه المملكةُ مجهولةٌ إلى عام 1968 عندما عُثِر على جذعِ تمثالٍ نذريٍّ من الحجر البازلتيّ يحمل نقشاً أكّادياُ مؤلفٍ من 26 سطراً، وتذكُرُ الكتابةُ بأنّ التمثالَ هو هبةٌ من ملك (إيبلا) (إيبيت ليم) من (أجرش حيبا) لمعبد (عشتار) في مدينة (إيبلا)، وبذكرِ اسمِ إيبلا مرتين في النقش تم التأكُّد من أنّ موقعَ تلِّ مرديخ يضمُّ مملكةَ إيبلا القديمة.
وصلت مساحةُ إيبلا في أوجِ قوّةِ المدينة السياسيّة إلى 50 هكتاراً. شكلُ المدينةِ شبهُ منحرفٍ تقريباً وكانت تتألفُ من أربعِ أحياءَ أُحيطت بسورٍ منيعٍ بُنيَ بحجارةٍ كبيرةٍ غيرَ منحوتةٍ ومحصنٍ بأبراجَ مربعةٍ بارزةٍ وتتخللُ السورَ أربعةُ بوابات.
يتألف الموقع من مدينةٍ منخفضةٍ ومدينةٍ مرتفعةٍ (الأكروبول)، بُنيت مساكنُ المدينةِ المنخفضةِ البسيطةِ باللِّبْن بدون أساساتٍ حجريةٍ وربما ضمّت أيضاً معابدَ. أما الأكروبول فهو مركزُ المدينةِ ويتألفُ من صخورٍ كلسية بُنيت فوقَها المعابدُ والقصورُ ويفصلهُا عن المدينة شارعٌ عريض.




أهمُّ الاكتشافاتِ كانت مكتبةُ القصرِ الملكيّ التي احترقت حين غزاها الملكُ الأكادي نارام سين، وبالنار التي كانت دماراً للمدينة شُويَت الرُّقَمُ الطينيّةُ وأصبحت مقاومِةً للعواملِ الجوية، وبفضلِها تعرّفنا على حقبةٍ غامضةٍ من الزمن تمتدّ بين عامَي 2400 و2250 ق.م. وكانت الرُّقَمُ المكتوبةُ بالأحرف المسمارية، ليست سومريةً ولا أكادية ولا أي لغةٍ معروفة، وبعد الدراسة والمقارنة وُجِد أنّها لغةٌ جديدةٌ خاصّةٌ بمملكةِ إيبلا. واتّضحَ أنّها أقدمُ من رُقْمِ ماري بـ 400 سنة ومن رقم أوغاريت بـ 1000 سنة.
والمكتبةُ ذاتُ أرشيفٍ منظمٍ ومنسّقٍ بشكلٍ جيّد وبلغ تعدادُ الرُّقمِ الموجودةِ فيها حوالي سبعةَ عشر ألف وخمسمائة رُقيمٍ وكِسرةٍ طينية مكتوبة باللغة الإيبلائية. كان كلُّ رفٍّ مخصصٍ لموضوعٍ وتتراوح أحجامُ الألواحُ ومساحتُها وشكلُها. وشكلُ اللوح يوحي بمضمونه، فالصلوات والأدعية كانت على ألواحٍ مستديرة صغيرة، والأساطير على ألواح مستطيلة، والوثائقُ التاريخية على ألواح متوسطة ومستديرة أو مربعة مع زوايا مستديرة.
كما وجد الباحثون أنّ سجلّات المكتبة تحتوي على مواضيعَ سياسيةٍ وثقافيةٍ واقتصاديةٍ وقانونيةٍ وفنيةٍ وعلميةٍ ودينيةٍ ونصوصٍ إدارية. وتقاريرَ عن تصديرِ كمياتٍ من الأثاثِ والمعادنِ والنُّسج واللازورد، وقوائمَ بأسماء أشخاص فُرضت عليهم ضرائب.
إضافةً إلى نصوصٍ لغويةٍ ومعلوماتٍ عن الطيورِ والأسماكِ وأسماءَ مدنٍ وشخصياتٍ ونصوصٍ تشريعية ٍ وتاريخيةٍ وأوامرَ ملكيةٍ ومراسيمَ وكتبٍ رسميةٍ ووثائقَ زواج. بالإضافة لفهارسَ لتعليم اللغة السومرية الأكادية ونصوصِ قواعد لغوية تشبه المعاجم، وبذلك يكونُ أقدمُ قاموسٍ لأكثرَ من لغتين عُثر عليه في إيبلا.
وتعتبر قوانين حمورابي أقدم القوانين إلا أنّ قوانين إيبلا المشابهة لها وُضعت قبلها. كما اكتُشف في إيبلا قصيدةً تعود إلى عام 2400 ق.م وهي أقدم من قصيدة بلاد الرافدين التي تعود إلى عام 2200 ق.م.

  

اعتقد العلماءُ سابقاً بأنّ أهمّ الحضارات التي كانت في الألف الثالثة قبل الميلاد هي حضارةُ مابين النهرين وحضارةُ وادي النيل، ولكنّ اكتشافَ إيبلا بدّل هذه النظريةَ وذلك لأنها لا تقلُّ أهميةً عن تلك الحضارتين. وفي عام 1999 ميلادي تمّ ترشيحُ هذا الموقعَ الهامَّ لوضعِه ضمنَ لائحةِ التراثِ العالميِّ بعد أن تمّ تقديم ملفٍ كاملٍ يدرس هذا الموقع ويظهر القيمة العالمية الاستثنائية له.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق